حبس العالم أنفاسه ليلة الجمعة(15 يوليه) على إثر محاولة انقلاب فاشلة وبائسة بدت قوية ومسيطرة على الأرض في البداية ، حتى تبين بؤس من قام ودبر وفكر في تنفيذ تلك العملية(الساذجة) ضد شعب نعم بالاستقرار والحرية والرخاء في ظل الديمقراطية ، وتحت حكم حزب العدالة والتنمية ، وقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان.
كى نفهم وقائع ما جرى خلال ساعات عصيبة في تركيا ، أسهمت في فشل الانقلاب سريعاً قبل أن يثبت أركانه ، لابد أن نؤكد على عدة عوامل ساهمت في إفشال محاولة الانقلاب سريعاً ، وأخمدت التمرد في مهده قبل أن يتمدد:
أولاً :هو انعدام القيادة الموحدة داخل الجيش التركي التي ترجح كفة فكرة الانقلاب ، وتبين أن معظم قياداته وقفت ضد أي انقلاب على المسار الديمقراطي الذي قطعته تركيا على نفسها ، واختاره الشعب سبيلاً للنهوض والتقدم وتداول السلطة ، وما هو إلا فصيل متمرد صغير داخل الجيش من المغامرين المغرر بهم سرعان ما استسلموا أمام شرعية الشعب الثائر في الشوارع والميادين ، فمن الواضح أن الجيش التركي لم يعد على قلب انقلابي واحد كما سبق من انقلابات غابرة أعوام(1960 – 1971 – 1980 – 1997).
ثانياً : الوعي السريع لجموع الشعب التركي لخطورة ما حدث ، الذي أكد أنه لا عودة للوراء حيث عصور الانقلابات العسكرية الكئيبة ، وعليه نزلت ملايين الشعب(حتى من خارج حزب العدالة والتنمية وهذا هو الأهم ودليل الوعي)في كافة المدن والشوارع والساحات والميادين ترفض أي انقلاب وتلتف خلف القيادة ، وتضع نفسها أمام دبابات الانقلابيين ، بل وتساعد قوات الشرطة في استتباب الأمن ومقاومة وتسليم عناصر الانقلاب وتأديبهم بأجسادهم العارية ، الأمر الذي يؤكد نجاعة الديمقراطية التركية واستقرارها في الذهنية الشعبية للأتراك.
ثالثاً : الموقف الأخلاقي التاريخي والمشرف للأحزاب التركية والنخبة العلمانية والمعارضة التركية لسياسة أردوغان ولحزب العدالة والتنمية ، من الرفض القاطع والحاسم لأي انقلاب على الديمقراطية ، ووقوفهم صفاً واحداً ، مما فوت الفرصة أمام الانقلابيين لابتزاز الشعب ودغدغة مشاعره عبر توظيف واستغلال استياء المعارضة بسياسات الرئيس أردوغان ، ومن ثم لم تجد عناصر الانقلاب ظهيراً شعبياً لها من المعارضة العلمانية يلتف حولها ، ويبارك تحركاتها ويرقص على دماء الضحايا على أنغام “تسلم الأيادي” تماماً كما فعلت نظيرتها في مصر مثلاً عبر ما يسمى (جبهة الانقاذ) ، باختصار فقد أدركت النخبة العلمانية المعارضة عبر تجربة السنين ، أنه لا أمان تحت حكم العسكر ، ولا ديمقراطية أو حرية أو رخاء ، حيث لا سبيل للتغيير سوى بالمسار الديمقراطي.
رابعاً : التزام الاعلام مؤيداً ومعارضاً بالمعايير المهنية ، والرفض الضمني للانقلاب من حيث المبدأ ، فلم نسمع تحريضاً على الشرعية ، أو استدعاءً للعسكر للدخول في معترك الحياة السياسية ، فكان الاعلام في طليعة الشعب الذي أدرك خطورة الخطوة ، فقفزوا على كل خلافاتهم مع السلطة واختاروا الانحياز للمسار الديمقراطي ، ووصف ما حدث بالانقلاب وليس شيء آخر.
خامساً : تأخر إدانة المحاولة الانقلابية دولياً واقليمياً وعربياً ، إلا بعد التأكد من فشل المغامرة البائسة ، عدا دولة قطر التي أعلنت دعمها الصريح للسلطة الشرعية منذ البداية ورفضت صراحة ودون مواربة الانقلاب على الارادة الشعبية التركية ، مما يدل على تورط غربي (أمريكي بالتحديد) ، وإسرائيلي روسي بطبيعة الحال ، فما كان ليتجرأ ذلك الفصيل أو الجناح الصغير في الجيش دون غطاء دولي ، فضلاً عن بعض الأطراف الإقليمية(إيران وسوريا والعراق ومصر والامارات)، ولكل دولة مصالحها الخاصة المتعارضة تماماً مع النظام التركي ، فأبدت التأييد الضمني على أقل تقدير ، ولعل ما لحظناه من فرحة عارمة ، وشماتة ملفتة في الرئيس أردوغان قبل أن ينقلب الفرح لمأتم وانتكاسة وخزي على أذناب تلك الدولة وأذرعها الاعلامية ، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي القريبة من تلك الدول، خير شاهد على هذا التواطؤ.
وأخيراً يجدر بنا أن نؤكد في هذا السياق على أن من يدعم ويخطط ويتآمر على تركيا ، لن يعدم الحيلة ليعيد الكرة مرات ومرات حتى يتخلص من أردوغان شخصياً ، ومن التجربة الديمقراطية الناجحة ، فربما تكون المحاولة الفاشلة جرس إنذار لما هو آت ، ودرس قاس لاحكام القبضة على فلول الدولة العميقة وأذنابها ، وفرصة لتحسس مكامن نقاط الضعف ، ووضع اليد على قائمة الأعداء الحقيقيين لتركيا في الداخل والخارج… فرب ضارة نافعة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق